.
.
- لا، إن كُنت أفريقياً لأصبحت بشرتك سمراء كبقيتنا !
كشر "شمع" في وجه رفيقته :
- لا أظن أن لون البشرة جواز أهلية !
- لكن أنظر جيداً ! كم من شخص ذو بشرة حنطية قابلته هُنا هاه ؟! صدقني نحن في جنوب أفريقيا وهذا يعني هذا !
أمسكت جمانه بجلد يدها وقربته لعيني شمع الذي بدأ بالضحك، فمنذ نصف ساعة وهما يتجادلان حول موضوع سخيف يتعلق بـ"موطنك الأصلي" ! فتلك الفتاة مُصرة على رأيها القائل بأن أجداد شمع كانوا من العبيد الذين تم استيرادهم من الدول المجاورة !
- حسناً حسناً أنتِ مُحقة، الآن ألن تذهبي لإنجاز عملك قبل أن تغضب عمتي !
- وأصبحت عمتي هاه !
تمتمت "جمانه" بإحباط وأسرعت بجمع الملابس المتسخة لتغسلها خارجاً ..
عدل "شمع" قميصه ووقف ليكمل عمله هو أيضاً، فجراحه قاربت على الشفاء ولم تعد مُتعبة له كالسابق ..
عمله ليس "عملاً" بالمعنى الحرفي، كل ماعليه فعله هو الإعتناء بالبقرة في الحظيرة وإعادة بناء السور وتصليح الأبواب وتقطيع الخشب وغيرها من الأعمال التي كان رجال القرية يساعدون بها "سلمى" العجوز قبل أن يحضر ..
- نشيط كالعادة هاه ؟
- ليس كما سعادتكم ..
ضحك الطبيب وربت على كتف "شمع" :
-هاها، دعك من الرسميات ياصديق ! هيا تعال معي أحتاجك للحظة.
نظر شمع إلى عيني الطبيب ليجد نظرة قلق تعلو محياة:
- دقيقة سيدي سأقطع الأخشاب وآتي.
- أسرع إذن، أنتظرك في عيادتي هذه المرة .
قالها الطبيب بهدوء شديد وعاد من حيث أتى .
أنهى شمع بسرعة تقطيع الخشب وترتيبه وأدخله إلى الزريبة، -حيث تحتفظ سلمى العجوز بكل شيء فيها، الحيوانات الخشب والأعشاب المُجففه-
بعد ذلك أسرع لرؤية الطبيب ..
***
في منزل الطبيب أو -العيادة- يوجد ثلاثة غرف لاغير مع المطبخ ، غالباً يستخدم الطبيب غرفة للمرضى وواحدة للزوار والأخيره فهي غرفته الخاصة، في العادة تكون العيادة مليئة بالزوار المرضى وحتى الذي أتو لمجرد المُشاهدة والتعلم، لكن اليوم كما يبدو فقد أُغلقت العيادة.
جلس شمع أمام الطاولة الخشبية المنحوتة بمشهد صيد في السافانا، أسد وثلاثة رجال يحملون حراباً مزينة بالريش .
- أعجبتك الطاولة ؟
قال الطبيب وهو يضع كأساً من الشاي أمام ضيفه .
- المرة الأولى التي أرى فيها مشهداً منحوتاً بهذه الدقة.
- ورثتها من والدي .
- ثمينة بطريقة مضاعفة إذن!
ضحك الطبيب بشدة وجلس على كرسيه وهو يشير إلى شمع بعينين دامعتين :
- تماماً !
لحظة من الصمت مرت بينما شمع يشرب من الشاي والطبيب يستعيد أنفاسه المتقطعة من كثرة الضحك، فالبرغم من أنه طبيب 'ومن الطبيعي أن الأطباء يشاهدون الكثير من الأشياء السيئة في هذا العالم وإن كان هُنالك سبب "صحي" لعدم الضحك والتجهم فأني أعطي الأطباء كافة الصلاحية بذلك !، لكن يبدو أن الطبيب عكس كل مفاهيمي عن الأطباء، فبإمكان هذا الرجل أن يضحك حتى تنقلب أمعاءه رأساً على عقب إن شاهد فيلاً لايستطيع إمساك ذيل صغيره ! -.
أخذ الطبيب نفساً طويلاً وعدل من جلسته أمام "شمع" تماماً.
- إذن " إثنان وأربعون" .. هو اسمك الحقيقي إيه ؟
نظرة رعب وصدمة عبرت وجه "شمع" أو "إثنان وأربعون" كما كان اسمه قبل شهور من الآن !
كيف لهذا الرجل الآن، أعني كيف لهذا الرجل أن يعرف شيئاً كهذا ! !
- هاه .. ؟!
لم يستطع شمع أن يقول شيئاً، ماذا سيقول ! كيف عرفت اسمي ؟ من أنت ؟ أأنت من المنظمة وترغب بإعادتي إليها !؟ أو هل من الممكن أنك ستقتلني كعقاب لهربي ؟!
- لا تقلق، لستُ من كلاب شركات الدم تلك .
قال الطبيب بهدوء ثم وقف وذهب إلى مكتبته وأخرج دفتراً من بين الكُتب .
- مُفكرتي !
وقف "شمع" مبهوراً ! لقد ظن أنها سقطت منه حين الزلازل لذا لم يسأل عنها ! لكنها الآن أمامه !
- "مُذكرات الحمقاء" هاه ؟
قالها الطبيب مُبتسماً بتهكم :
- ألم تجد اسماً أكثر ملائمة للتخفي !
أعطاه دفتره وجلس في مكانه من جديد :
- لا بأس، لم يقرأ أحد دفترك هذا بإستثنائي.
- لماذا ؟! أعني عذراً لكنها مُجرد يومياتي ليست بتلك الأهمية !
نظر الطبيب إلى الشاب أمامه وقال بجدية :
- أتظن أن شركات الدم ستترك أمراً كهذا يمر تحت ناظريها دون أن تفعل شيئاً ؟ مُذكراتك تُعتبر مصدر معلومات خطر قد يسبب حرباً داخلية أخرى ! من الغريب أنهم سمحوا لك بالخروج وهو معك .
- كنت أخفيه .
- مبرر جيد لوجوده ..
لحظة صمت أخرى مرت، بثقل شديد وبهدوء ينزعج من نفحات الهواء الباردة التي تُحرك الستائر من حين لآخر ..
- ما الذي كنت تقصده ب " شركات الدم " ؟
- هذا هو اسم "مُنظمتكم" . اسمع "شمع"، هروبك من ذاك الجحيم يعد خرقاً واضحاً للقوانين التي وضعتها الشركة لكل العاملين لديها، إن وجدتك أو عرفت بأمر هروبك فلن يتركوك تعيش بسلام !
- لكن لم يحدث شيء ! أعني لم يبحث أحد عنا !
أومأ الطبيب رأسها وقال بهدوء :
- شكراً للإستراتيجية التي اتبعتها مع جثة أولئك الشابين لم يشك أحد بإختفائك أو إحتمالية نجاتك . لكن الأمر الآن ....
- إستراتيجية ؟ جثة ؟
صرخ " شمع" واقفاً :
- ماذا تقصد بذلك ؟ مالذي فعلته بأصدقائي ؟
- أهدأ الآن، لدينا مشكلة أكبر يجب أن نناقشها !
- لكن .. لكن !
- يكفي !
صرخ الطبيب ضارباً يده بالطاولة، تجمد شمع في مكانه ثم تهاوى على الكرسي :
- آ ... آسـ.. لم أقصد .. أعتذر سيدي .
تنهد الطبيب :
- لا بأس، سأخبرك بكل شيء لكن اهدأ رجاءً، لم يعد هُنالك وقت كافي، صراحة لا أعرف، لكن أظن أنهم سيكتشفون الأمر قريباً !
- أمر ؟ مالذي يحدث سيدي ؟!
وهكذا بدأ الطبيب بسرد مالديه، عن كيفية إيجاده و أصدقائه عندما كان يسافر مع إحدى القبائل البدوية، وكيف أن رئيس القبيلة أستأمنهم إليه واصابة "لاما" التي تسببت في موته لاحقاً ، شرح الطبيب كيف أضطر إلى إرسال الجثتين عودة إلى مكان إيجادهما وخداع محققي الشركة بهما ليجعلهم يظنون أن "إثنان وأربعون" دفن تحت الأنقاض أيضاً ..
أخبره عن أصل الشركة وكيف أنها كانت تتنقل من منجم لآخر نظراً لجفاف باطن الأرض من الأحجار الكريمة، وكيف أن الفرع الذي أُنشاء جنوب أفريقية في البلاد التي كانت تسمى قديماً " جنوب أفريقية" و " ناميبيا" هي الآن مقر الشركة الحالي، وكيف أن المناجم التي تعمل عليها بدأت تجف لذا قامو بإرسال بعض المنقبين للتنقيب عن أراضِ صالحة للحفر شمالاً - وإثنان وأربعون وفرقته كانت من تلك الفرق، لكن نظراً لأنها فرقة جديدة فقد تم إرسالهم إلى الصحراء جنوب "مالي" حتى يبحثون عن أرض صالحة لبناء عدة وحدات سكنية جديدة نظراً لإيجاد منجم بحري قريب -
تكلم الطبيب كثيراً عن شركات الدم وبداية الحرب وأسبابها، أخبره بأن الأرض لم تتلوث يوماً لتصبح غير مأهولة بالسكان، وأنها لطالما احتضنت الحروب من قبل ولم يحدث لها شيء دمر الحضارة ، أخبره عن مطمع تلك الشركات بعدم صرف الكثير من أموال أرباحها لإستخدام الآلات الغالية المهدرة للطاقة التي استبدلوها بآلاف العمال الذين استعبدتهم لأهوائها الطامعه.
-خُدعنا جميعاً ..
قال "شمع" بدون شعور، أن يتم الحكم عليك بالموت مع الأشغال الشاقة أمر سيء، لكن أن تموت جاهلاً لمأساوية وضعك أمر أكثر سوءاً !
أن تموت دون أن تعرف شيء عن العالم، عن الحياة والآخرين .. والأهم من ذلك كُله أن تفقد حقاً طبيعياً كالحصول على اسم يميزك عن باقي مخلوقات هذه الأرض ! أن تموت بعيداً عن نفسك !
للحظة ، أحس "شمع بالإشفاق على نفسه، على رفاقه،و على المنظمة ..
- ليس تماماً .
رد الطبيب بوجه قلق، لقد تم بيع قراكم على الأرجح إلى الشركة ليحصل مُلاك الأراضي على بعض المال .
- بيع ؟ .. تعني عملية بيع !؟ للبشر ؟
- تقنياً هذا محظور دولياً، لكن بالنظر إلى قرية فقيرة كهذه لن يكون أمراً مستغرباً لو تم بيع كُل النساء والأطفال لشركات الدم، فهم يحتاجون إلى الأيدي العاملة على كُل حال ..
زفر الطبيب بعصبية :
- إن وجودك هُنا، قد يضعون أعينهم على بعض القرويين أيضاً. لذا ...
- لا بأس سيدي.
رد شمع بإصرار ويديه تعصران بعضهما بغضب أو بأسى ؟ بالتأكيد شعور ما بينهما، خليط منهما ربما، مع الكثير من الحقد ..
- لم أكن أنوي الإستقرار هُنا أساساً ، لكن أرجوك أكمل، أريد أن أعرف كل شيء ممكن.
زفر ليعيد هدوءه غصباً عن أعصابه الثائرة :
- أخبرني بكل ماتعرف أرجوك، سيدي .
أخبره الطبيب بعد ذلك عن دول الصراع التي تتحكم بالعالم اليوم، فلم يعد هُنالك مئات الدول السياسية، بل إنقسم العالم إلى أقسام إقتصادية خمس .. دول آسيا وإقتصادها يتخصص بالمحاصيل الزراعية الأساسية كالأرز والبطاطا ، وأستراليا المتخصصة بالماشية، أمريكا المتخصصة بالإلكترونيات وصناعة الطاقة ، أوروبا المتخصصة بمواد البناء والأعمال الحرفية، وأخيراً وليس آخراً أفريقية "حيث هم الآن" والتي تتخصص بالألماس والأحجار الكريمة و الغاز .
مضت عدة ساعات وهما يتحادثان ويتناقشان من موضوع لآخر، من حقيقة لأخرى .. "إثنان وأربعون " أوه بل أقصد "شمع" نضج فكرياً بعد تلك الجلسة .. أستطاع أن يميز الخط الفاصل بين الواقع والخيال .. الكذب والحقيقة .
****
- أوووووووي ! أيتها الشحمة المُتجمدة توقف قليلاً !
ركضت "جمانه" بسرعه متجاوزة جذع شجرة كبير كاد أن يسقطها أرضاً، صرخت بغضب ورفعت السلة خوفاً من أن تقع حقاً ويتناثر مافيها أرضاً !
- توقف أيها البليد لحظة !
صرخت من جديد وهي تقترب إلى شمع :
- ألم أقل لك أن تتوقف ؟
- لم أجد سبباً لذلك !
قالها شمع مُبتسماً بخبث :
- ساقاك طويلتان حقاً لتقفزي من فوق ذلك الجذع دون أن تتعثري !
ردت "جمانه " التعليق بضربة من يدها :
- إذن لن تحتاج إلى خدماتي أيها الغبي !
- ماذا تريدين أن تعملي لدي ؟
- ماذا ؟!
غضب جمانه يثير دوماً جواً من السعادة داخل قلب "شمع"، لا يعرف لماذا بالتحديد، لكن رؤية وجهها المليء بالمشاعر والحياة يمده بأطنان من السعادة تكفيه للأبدية .
تنهدت "جمانه" وعدلت من ثنيات فستانها السفلية :
- لاا تباً، والدي سيغضب علي إن تمزق !
رفعت رأسها بسرعة وصرخت بغضب :
- وكل ذلك بسببك !
- حسناً حسناً أعتذر ماكان يجب أن أتجاهلك طوال الطريق من القرية. أعتذر أعتذر ،
ربت على كتفها مساعداً في إزالة بعض الأوراق من على خصلات شعرها :
- بالرغم من أني سأشتاق لصوت أحدهم الغاضب ..
رفعت "جمانه" يدها بحنق لتبعد يده :
- مـ... مـاذا تظن أنك فاعل أ..أحمق ! من سيشتاق لـغبي مـثلـ... مـ ..
دموع تساقطت كحبات لؤلؤ هاربة من عقد قديم، لم تستطع أن تكمل جملتها الآخيرة ولم تحرك ساكناً خوفاً من أن تسقط شلالات أخرى مختبئة خلف تلك الآلئ .
مضت فترة من الوقت لم يتحرك أحدهما من مكانه.. صمت غطى على الغابة أيضاً ..
سيمفونية وداع حزينة تغردها طيور المساء، الشمس تبحث عن أحد أطفالها من ألوان الطيف المختبئ خلف الغيوم، الأشجار تتنهد بعمق .. والكثير من الغراس الباكية أسفل قدميهما ..
- ماذا تبكين من أجلي ؟
- أصمت ! أحمق غـ.. غبي !
دموع أخرى بدأت بحفر أخدود جديد في خديها، إبتسم "شمع" برفق ومسح رأس الشابة بلطف :
- لا بأس، قد أعود يوماً . . .
- ...
- ألا تثقين بي ؟
هزت رأسها بالإيجاب، لكنها لاتعرف، غياب شخص إعتادت على وجوده أمر غريب .. وكأنك تفقد جزءاً من نفسك دون أن تدري، وكأنك تقتطع بعضاً من أحشائك لتقدمها إلى الطيور المهاجرة ..
و تشتاق إليه دون أن تحصل على فرصة رؤيته للأبد !
ذلك الجزء الذي لن يعود كما كان حتى وإن عاد إليك من جديد !
سيتغير ! سيتغير بالتأكيد ! الهواء يغير كُل شيء .. سيتغير هو بالتأكيد ولن يعود ....
- لا بأس ، لاتبكي ..
إبتسم "شمع " مرة أخرى وخلع سلساله الخشبي :
- قمت بنحت هذا الحوت مرة لأستطيع تقديمة إلى أحد أصدقائي رداً لهدية أعطاها لي ذات مره ..
إبتسم ورفع رأس جمانة إليه :
- لا أعرف أين هو الآن، وإن كان حياً أم لا.
ألبسها القلادة وابتسم :
- كالعادة تبدو أجمل على رقبة فتاة مثلك .
إبتسامة سطرت وجهيهما لفترة بسيطة، مسحت "جمانة" دموعها وقدت السلة إليه :
- سلمى تقول أن تأخذ بعضاً المؤنة، قد تحتاج إليها في سفرك .
- شكراً. أخبري الجميع بعظيم إمتناني .
أومأت برأسها ويدها اليسرى متعلقة بالحوت الخشبي المُهترئ، "شمع" سيرحل عن القرية ليستكشف العالم الخارجي .. هذا ماقاله لهم ..
" - لطالما رغبت أن أكون منقباً لأتمكن من الترحال في الأرض" ..
كان هذا ماقاله لسلمى العجوز قبل رحيله :
" - شكراً جميعاً، وجودي في هذه القرية أجمل تجربة يمكن أن أحصل عليها في حياتي، سأعود بالتأكيد يوماً ما" .
تذكر جيداً كيف إلتفت إليها وقال بإبتسامته الهادئة التي لم تفارقه أبداً :
" - فالسعادة مستقرة هُنا كما يبدو !"
مسحة من حُمرة مغمسة بالخجل وردت خديها ، أنفها بدأ يرقص مرحاً ..
صرخت بقوة وهي ترقب ظل ذلك الرجل يبتعد عنها أكثر وأكثر ويتحول إلى ذكرى لن تنساها :
- عد قريباً ! فنحن بإنتظارك !
صوتها الداخلي يصرخ أيضاً بخجل أنثوي : " سأشتاق إليك، عد إلي بسرعة " ..
..
ترحال أصبحت حياته، عكست ماكانت عليه من ثبات وجهل، تغيير آلت إليه أحوالة بدلاً من رتم سئيم للعمل ..
خسر ماظنه أهم مالديه، لكن الخسارة تصبح كنزاً مع استمرار الحياة ..
" لا خسارة إلا خسارة العلم " قال هو ، ومضى في رحلته يجوب العالم مُكتشفاً أحلام طفولته الغابرة عن الغزلان الراكضة والقمر الراقص فوق حقول الزهر المُمتده .
#
إنتهت ..
Ms.Candy
2012 - 1 - 4 ..
Posted via
m.livejournal.com.